2012/09/03

(الإسلام و مشكلات الحضارة)


إن محاولة وضع أحكام تشريعية فقهية إسلامية لمواجهة أقضية المجتمع الذي تعيش فيه البشرية ، و الذي ليس إسلاميا ، لأنه لا يعترف بأن الإسلام منهجه ، و لا يسلم للإسلام أن يكون شريعته .

إن محاولة وضع أحكام تشريعية لأقضية مثل هذا المجتمع ، ليست من الجد في شيء . و ليست من روح الإسلام الجادة في شيء . و ليست من منهج الإسلام الواقعي في شيء .

إن الفقه الإسلامي لا يستطيع أن ينمو و يتطور و يواجه مشكلات الحياة إلا في مجتمع إسلامي ! مجتمع إسلامي واقعي ، موجود فعلا ، يواجه مشكلات الحياة التي أمامه و يتعامل معها ، و هو مستسلم ابتداء للإسلام !

إنه عبث مضحك أن نحاول مثلا إيجاد أحكام فقهية إسلامية للأوضاع الاجتماعية و الاقتصادية في أمريكا أو روسيا ، كلتاهما لا تعترف ابتداء بحاكمية الإسلام !


و كذلك الحال بالنسبة لأي بلد لا يعترف بحاكمية الإسلام !

و كل فقه يراد تنميته و تطويره في وضع لا يعترف ابتداء بحاكمية الإسلام هو عملية استنبات للبذور في الهواء .. هو عبث لا يليق بجدية الإسلام !

إن مشكلات "المجتمع الإسلامي" في مواجهة الحضارة القائمة ، ليست هي مشكلات أي مجتمع آخر ، إنها ليست مشكلات جاهزة حتى نهيئ لها حلولا جاهزة .. إنها مشكلات ستنشأ بشكل خاص ، و بحجم خاص ، وفق ظروف في عالم الغيب ، و وفق ملابسات لا يمكن التكهن بها الآن .. فمن العبث الجري وراء افتراضات لم تقع بعد ، على طريقة "الأرأيتيين" التي يمجها الجادون من مشرعي و فقهاء الإسلام .

كما أن مشكلات المجتمع الحاضر في مواجهة الحضارة القائمة ليست مشكلات "مجتمع إسلامي" فهذا المجتمع الإسلامي لم يوجد بعد ـ منذ أن اتخذت شرائع غير شريعة الإسلام لتصريف الحياة ـ لم يوجد ، حتى تكون هذه مشكلاته ، و الإسلام ليس مطلوبا منه ـ ولا مقبولا منه كذلك ـ أن يوجد حلولا فقهية لمجتمع غير إسلامي .. مجتمع أنشأ مشكلاته هذه بسبب أنه لم يعرف الإسلام ، أو بسبب أنه هجر الإسلام ، إن كان قد عرفه من قبل ..

ففيم الجهد ؟ و فيم العناء ؟

إنه ليس الذي ينقص البشرية لقيام مجتمع إسلامي هو وجود فقه إسلامي "متطور" ! إنما الذي ينقصها ابتداء هو اتخاذ الإسلام منهجا وشريعته شريعة . إن الفقه الإسلامي لكي يتطور ، ينبغي أن يجد التربة التي يتطور فيها ، و التربة التي يتطور فيها الفقه الإسلامي هي "مجتمع إسلامي" يعيش في العصر الحاضر ، بدرجته الحضارية ، و يواجه مشكلات قائمة بالفعل ، بتكوينه الذاتي ، و مواجهة المجتمع الإسلامي لهذه المشكلات، لن تكون كمواجهة أي مجتمع آخر لها بطبيعة الحال .

و لكن هذه البديهية ـ فيما يبدو ـ لا تبدو واضحة للكثيرين من المخلصين الغيورين على الإسلام "العقلاء" !

ومن أجل ذلك نكرر ونعيد ونزيد في الإيضاح ..

إن كل ما يمكن قوله إجمالا عن المجتمع الإسلامي .. أنه ليس صورة تاريخية محددة الحجم و الشكل و الوضع .. و أننا في العصر الحديث لا نستهدف إقامة مجتمع من هذا الطراز ، من حيث الحجم و الشكل و الوضع ، إنما نستهدف إقامة مجتمع مكافئ من النواحي الحضارية المادية ـ على الأقل ـ للمجتمع الحاضر . و في الوقت ذاته له روح و وجهة و حقيقة المجتمع الإسلامي الأول ، الذي أنشأه المنهج الرباني . باعتباره قمة سامقة في روحه و وجهته و حقيقته الإيمانية و تصوره للحياة ، و لغاية الوجود الإنساني، ولمركز الإنسان في هذا الكون ، ولخصائصه و حقوقه و واجباته . و قمة سامقة في تناسقه و تماسكه .. أما الشكل و الصورة و الأوضاع فتتحدد و تتجدد بتطور الزمن ، و بروز الحاجات ، و اختلاف أوجه النشاط الواقعي .. إلى آخر الملابسات .. الملابسات المتغيرة المتحركة .. و لكن التي ينبغي أن يكون تحركها ـ في المجتمع الإسلامي ـ داخل إطار المنهج الإسلامي ، و حول محوره الثابت ، و على أساس الإقرار بألوهية الله وحده ، و إفراد الله سبحانه بخصائص الألوهية دون شريك . و أولى هذه الخصائص هي حق الحاكمية و التشريع للعباد ، و تطويعهم لهذا التشريع .

و من ثم فإنه ليس "الفقه" الإسلامي هو الذي نتقيد به في إنشاء هذا المجتمع ـ و إن كنا نستأنس به ـ إنما هي "الشريعة" الإسلامية و المنهج الإسلامي ، و التصور الإسلامي العام .

و هذا يتطلب ابتداءاً ، أن ترتضي جماعة من البشر اتخاذ الإسلام منهج حياة ، و تحكيمه في كل شأن من شؤون هذه الحياة ـ أي إفراد الله سبحانه ، بالألوهية و الربوبية ، في صورة إفراده سبحانه ، بالحاكمية التشريعية ـ و لحظتئذ ـ لا قبلها ـ يوجد "المجتمع الإسلامي" .. و يبدأ في مواجهة الحياة القائمة ، بينما هو يكيف نفسه ، و أوضاعه و حاجاته الحقيقية ، و وسائل إشباع هذه الحاجات ، متأثرا بعقيدته ، و ما تنشئه من تصورات خاصة ، و متأثرا بأهدافه ، و ما تعنيه من وسائل خاصة ، و متأثرا بطريقته المنهجية الخاصة في مواجهة الواقع ، و الاعتراف بما هو فطري من هذا الواقع ، و ما هو ضروري لنمو الحياة السليمة ، مع رفض ما ليس فطريا و لا ضروريا للنمو ، و ما هو ضار و معطل و ساحق لهذا النمو ، من ذلك الواقع .. و في خلال هذه المواجهة ـ بكل هذه الملابسات ـ ينشئ أحكامه الفقهية الخاصة ، أولا بأول ، في مواجهة وضعه الخاص ..

و هنا.. قد يخدم هذا المجتمع الناشئ ما حسبناه وما نزال نحسبه سوء حظ في انقطاع نمو الفقه الإسلامي !

قد تكون هذه خدمة يسرها الله لحكمة .

ذلك أن المجتمع الوليد سيتجه حينئذ مباشرة إلى شريعة الله الأصلية . لا إلى آراء الرجال في الفقه ، لأنه لن يجد في آراء الرجال ـ و هي مفصلة لعصور خاصة و لظروف خاصة ـ ما يساوي قده ، إلا بعمليات ترقيع و تعديل .

وعندئذ يعمد إلى القماش الأصلي الطويل العريض .. "الشريعة" .. ليفصل منه ثوبا جديدا كاملا ، بدلا من الترقيع و التعديل !

إن هذه ليست دعوة لإهمال الفقه الإسلامي ، و إهدار الجهود الضخمة العظيمة التي بذلها الأئمة الكبار ، و التي تحوي من أصول الصناعة التشريعية ، و من نتاج الأحكام الأصلية ، ما يفوق ـ في نواح كثيرة ـ كل ما أنتجه المشرعون في أنحاء العالم .

و لكنها فقط بيان للمنهج الذي قد يأخذ به المجتمع الإسلامي الذي ينشأ ـ عندما ينشأ ـ و بيان لطبيعة المنهج الإسلامي في إنشاء الأحكام الفقهية ، إنشائها في مواجهة الواقع الفعلي للمجتمع الإسلامي ، المجتمع الذي يعترف ابتداء بحاكمية الإسلام .

إن تلك الثروة الضخمة من الفقه الإسلامي ، قد ولدت و نشأت ، يوما بعد يوم ، في مجتمع إسلامي يواجه الحياة بعقيدته الإسلامية و منهجه الإسلامي ، و يعترف ابتداء بحاكمية الإسلام له ، و لا يعترف بحاكمية منهج آخر غير الإسلام ، مهما يكن في سلوكه أحيانا من مجافاة جزئية للإسلام . و لكن الخطأ في السلوك و الانحراف في التطبيق شيء ، و عدم الاعتراف ابتداء بحاكمية المنهج الإسلامي كله شيء آخر .. الأول يقع في المجتمع الإسلامي و يظل مع ذلك مجتمعاً إسلامياً ، يصح أن ينمو فيه الفقه الإسلامى و يتطور ، و الثانى لا يقع إلا فى مجتمع غير إسلامى ، مجتمع لا يصلح بيئة لنمو الفقه الإسلامي و تطوره ، لأنه مجتمع جاهلي لا علاقة له بالإسلام ، مهما ادعى لنفسه صفة الإسلام !

و شيء آخر ..

إن الفقه الإسلامي ليس منفصلا عن الشريعة الإسلامية . و الشريعة الإسلامية ليست منفصلة عن العقيدة الإسلامية . و الفقه و الشريعة و العقيدة و نظام الحياة كل لا يتجزأ في التصور الإسلامي .. و محال أن يكون هناك إسلام و لا مسلمون و لا مجتمع مسلم ، إذا تمزق هذا الكل الموحد مزقا و أجزاء !

و في أي نظام اجتماعي آخر ـ غير النظام الإسلامي ـ تكفي المعرفة بأصول التشريع و طرق الصناعة الفقهية ليصبح للرجل القدرة على وضع الأحكام القانونية .

أما في النظام الإسلامي فإن مجرد المعرفة بأصول الصناعة لا يكفي . فلابد من أمرين :

1. مزاولة العقيدة و المنهج في الحياة العامة للأمة .

2. مزاولة العقيدة و المنهج كذلك في الحياة الخاصة للمشرع !

و هذا ما يجب أن نعرفه ، و نحذر من مخالفته و نحن نحاول ـ الآن ـ تنمية الفقه الإسلامي و تطويره . هذه المحاولات التي تبذلها جمهرة مخلصة من رجال الفقه و الشريعة في شتى أنحاء الوطن الإسلامي ممن يريدون أو يشيرون بتنمية الفقه الإسلامي و تطويره ، لمواجهة الأوضاع و الأنظمة و المؤسسات و الحاجات القائمة في المجتمعات الحاضرة .

إنهم ـ مع احترامي لهم ، و التجاوب مع شعورهم المخلص و رغبتهم المشكورة ، و تقديري للجهد الناصب الذي يبذلونه ـ يحاولون استنبات البذور في الهواء .. و إلا فأين هو "المجتمع الإسلامي" ، الذي يستنبطون له أحكاما فقهية إسلامية يواجه بها مشكلاته ؟

المجتمع الإسلامي هو الذي يتخذ المنهج الإسلامي كله منهجا لحياته كلها . و يحكم الإسلام كله في حياته كلها ، و يتطلب عنده حلولا لمشكلاته ، مستسلما ابتداء لأحكام الإسلام ، ليست له خيرة بعد قضاء الله .

فأين هو هذا المجتمع اليوم ؟ أين هو في أي زاوية من زوايا الأرض ؟

إن كل حكم فقهي يوضع الآن لمواجهة مشكلة قائمة في المجتمعات التي ليست إسلامية ، لن يكون هو الذي يصلح و يواجه الواقع في المجتمع الإسلامي ، لأن هذه المشكلة ذاتها قد لا تقوم أصلا في المجتمع الإسلامي حين يقوم . و إذا قامت فلن تكون هي بحجمها و شكلها ، و لن تكون طريقة المجتمع في مواجهتها ـ و هو إسلامي ـ هي طريقته في مواجهتها و هو غير إسلامي ، و لأن عوامل شتى ، و ملابسات شتى ، تجعل طبيعة المجتمع الإسلامي و طريقته في مواجهة الحياة و المشكلات غير طبيعة و طريقة المجتمعات غير الإسلامية .

هذه بديهية .. فيما أظن ..

إن أبا بكر و عمر و عليا ، و ابن عمر و ابن عباس ، و مالكا و أبا حنيفة و أحمد بن حنبل و الشافعي .. و أبا يوسف و محمدا و القرافي و الشاطبي .. و ابن تيمية و ابن قيم الجوزية و العز بن عبد السلام و أمثالهم "عليهم رضوان الله" كانوا ـ و هم يستنبطون الأحكام :

أولا : يعيشون في مجتمع إسلامي يحكم الإسلام وحده في شؤونه ، و يتخذ الإسلام وحده منهجا لحياته ـ حتى مع بعض المخالفة الجزئية في بعض العصور ـ و يواجهون الحياة بهذا المنهج و بآثاره في نفوسهم .

ثانيا : يزاولون العقيدة الإسلامية و المنهج الإسلامي في حياتهم الخاصة ، و في إطار المجتمع الإسلامي الذي يعيشون فيه ، و يتذوقون المشكلات و يبحثون عن حلولها بالحس الإسلامي ..

و من ثم كانوا مستوفين للشرطين الأساسيين لنشأة فقه إسلامي ، و تطوره ليواجه الأحوال المتطورة ، فوق استيفائهم طبعا لشروط الاجتهاد ، و التي لا مجال هنا و لا داعي لبيانها لأنها بديهية !

فأما الآن .. فماذا ؟؟

إنه لابد أن نحسب حساب عوامل كثيرة ، تبعد نمو الفقه الإسلامي و تطوره الآن عن منهجه الأصيل .

لابد أن نحسب بُعدَ الواقع العملي ، و الواقع النفسي و العقلي ، و الواقع الشعوري و الاعتقادي ، عن جو الإسلام و الحياة الإسلامية .

و لابد أن نتذكر أن المشكلات التي تواجهها مجتمعاتنا ليست مشكلات مجتمع إسلامي، حتى نستنبط لها أحكاما فقهية إسلامية !

و لابد أن نحسب حساب الهزيمة العقلية و الروحية أمام الحضارة الغربية ، و أمام الأوضاع الواقعية .. و الإسلام يواجه "الواقع" دائما . و لكن لا ليخضع له ، بل ليخضعه لتصوراته هو ، و منهجه هو ، و أحكامه هو ، و ليستبقي منه ما هو فطري و ضروري من النمو الطبيعي ، و ليجتث منه ما هو طفيلي و ما هو فضولي ، و ما هو مفسد .. و لو كان حجمه ما كان .. هكذا فعل يوم واجه جاهلية البشرية ، و هكذا يفعل حين يواجه الجاهلية في أي زمان .

إن أولى بوادر الهزيمة هي اعتبار "الواقع" أيا كان حجمه هو الأصل الذي على شريعة الله أن تلاحقه ! بينما الإسلام يعتبر أن منهج الله وشريعته هي الأصل الذي ينبغي أن يفيء الناس إليه ، و أن يتعدل الواقع ليوافقه ، و قد واجه الإسلام المجتمع الجاهلي ـ العالمي ـ يوم جاء ، فعدله وفق منهجه الخاص ، ثم دفع به إلى الأمام .

و موقف الإسلام لا يتغير اليوم حين يواجه المجتمع الجاهلي ـ العالمي ـ الحديث . إنه يعدله وفق منهجه ، ثم يدفع به إلى الأمام .

و فرق بين الاعتبارين بعيد . فرق بين اعتبار "الواقع" الجاهلي هو الأصل ، و بين اعتبار المنهج الرباني هو الأصل .

إنني أنكر و أستنكر استفتاء الإسلام اليوم في أية مشكلة من مشكلات هذه المجتمعات، احتراما للإسلام و جديته ، و إلا فأي هزء و استخفاف أشد من أن تجئ لقاض تطلب حكمه ، و أنت تخرج له لسانك ، و تعلنه ابتداء أنك لا تعترف به قاضيا ، و لا تعترف له بسلطان ، و أنك لن تتقيد بحكمه إلا إذا وافق هواك ! و إلا إذا أقرك على ما تهواه !

إن الإسلام لا علاقة له بما يجري في الأرض كلها اليوم ، لأن أحداً لا يحكم الإسلام في حياته ، و لا يتخذ المنهج الإسلامي منهجا لمجتمعه ، و لأن أحداً لا يحكم بشريعة الله وحدها ، و لا يفرد الله سبحانه بالألوهية و خصائصها ، و لا يجعل الكلمة الأولى و الأخيرة في شؤون الحياة كلها لله و لشريعة الله .

و الذين يستفتون ـ بحسن نية أو بسوء نية ـ هازلون !
والذين يردون على هذه الاستفتاءات ـ بحسن نية أو بسوء نية ـ والذين يتحدثون عن مكان أي وضع من أوضاع البشرية الحاضرة من الإسلام و نظامه ، أشد هزلا ، و إن كنت أعلم عن الكثيرين منهم أنهم لا يعنون الهزل و لا يستسيغونه ـ لو فطنوا إليه في شأن الإسلام ! إنما يستفتى الإسلام في الأمر حين يكون الإسلام وحده هو منهج الحياة . ذلك عند قيام المجتمع الإسلامي. المجتمع الذي يتخذ الإسلام شريعته و لا تكون له شريعة سواه ـ عندما يأذن الله و يشاء .

و ثقتنا فى رحمة الله بالبشرية تجعلنا نرجو دائماً أنه ـ سبحانه ـ سيأذن بهذا و يشاء .
فقيام هذا المجتمع ـ كما قلنا و كما نكرر ـ ضرورة إنسانية ، و حتمية فطرية ، و تلبية لنداء الفطرة فى ساعة العسرة ..
و إن كانت حتمية الميلاد لا تغنى شيئاً عن آلام المخاض ..

(سيد قب)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق