2012/08/31

و تستمر الحياة ..

كأي شابٍ حرَف مسارَ حياتِه بعنفٍ في لحظةِ استشرافٍ للحقيقة .. حقيقة الحياة .. ليرسُم لنفسِه معالمَ الطريق ، و قد خلع على عتبة التصوُّر الجديدِ رداءَ الجاهلية البالي !

كأي شابٍ استشعر معانيَ الغربة بين أقرانِه و معارفِه .. بل و بين أهلِ بيتِه ... غربة التصوُّر و التفكير .. غربة الاهتمام و الشُّعور .. غربة .. في كل مناحي الحياة ..

كأي شابٍ عزَم على سلوك الدَّرب الوعِر تاركاً وراءَه آمالا تُشيَّد في منتصف البِناء و أحلاماً ورديَّة أيْنعَت و حان وقت القِطاف .. و قد حدّد الوِجهة و استعان بالله في تحصيل الزّاد لمُؤنة الطريق ..

كأي شابٍ .. باع نفسَه لله .. و قبض مُقدم الأجر ؛ رفعةً في التصور و سموّاً في الشعور و عزةً في النفس و نقاءً في الروح .. في انتظار مُؤخر السّداد .. و هو الأجزى و الأوفى ؛ جناتٌ تجري من تحتها الأنهار و نظرةٌ إلى وجه الله الكريم .

.. كأي شابٍ آخر .. لآن طرَفُ هذا الشاب إلى شيءٍ من زينة الحياة الدنيا .. و مَالتْ نفسُه إلى بعضِ الأُلفة  .. و قصدُه في ذلك ؛ الاستئناس في وَحشة الطريق و جَبْرُ الغربة المقيتة برِفقةٍ حَسنة .. تقَرُّ بها عينُه و تطمئِن لها نفسُه .. فيَخطوان معاً خَطوَ المستبصِر الرّشيد في تؤدةٍ و ثبَات .


كانت تلك أمنيةً تُراوِدُه بين الحينِ و الحينِ .. تُخفِّفُ عنهُ من ضغطِ الواقع المرير.. لكن حال بينهُمَا الموج ! و لولا رحمة ربِّه لكان من المغرَقين ..
موجٌ من فوقِه موجٌ من فوقِه سحَاب .. ظلماتٌ بعضها فوق بعض .. مِلؤُها حقدٌ دفين و ظاهرها إخاءٌ كريم !
موجٌ هبَّتْ به رياح الصَّحب .. و يا أسفاه على الصَّحب و الأصدقاء !! لا صُحبةً حفِظوا و لا صِدقاً نطقوا !
لم يعُد يُجدِيهم التخلل من كثرةِ ما تناولته ألسنتهم في غَيْبتِه ..  تارة باللمز و التحقير و أخرى بالسَّب و التشهير .. و الشرر يتطاير مما تخطه أيديهم الآثمة و تلوكه ألسنتهم الجوفاء !  و قد أُخِذَ عليهم عهدُ الله أن يكفُّوا ألسنتهم .. فإذا بهم كل يومٍ للعهد ناكِثين !
صديقٌ واحد .. واحد فقط .. سعى للتَّبيُّن فيما وَصله من نبأ الأفَّاكين .. و لم يرْفُث و لم يصخَب كما الباقين .. له كامل الاحترام و التقدير .. و الامتنانُ و الشكرُ الجزيل ..

أمّا من تلبسوا أمس بلباس الصداقة و يُضمِرون في أنفسهم ما لا يُظهِرون .. فرسالة الشاب لهم أن تمادَوْا في غيِّكم فإنما تخفِّفُون عنه بعضَ ما ينوء بحِمله  ..

و أمّا من سارت معه في درب الأشواك خُطوات .. فقد كان موقفها صادماً و مؤلماً بشِدة .. لقد ألقَتِ السَّمع إلى شياطين الإنس و صَخَّت آذانها عمَّن صدقَها القول و الشعور من أول يوم !

ألمٌ يفوق كل احتمال .. شبيهٍ بذاك الفراغ الذي قرأ حروفه مرتسمة على ملامح شقيقته يوم أن فقدت جنينها .. بل هو فراغ أشد .. لأنه لا يُعوَّض و لا من يملأه لا اليوم و لا غدا !
و مع ذلك كله .. فإن قلباً أحبَّ يوماً بصِدق .. لن ينقلبَ صاخباً في وجهِ من أحبَّ .. أيا كانت الأسبابُ و المُبررات .. سيحفظ لها قَدْرَها و يرفَعُ مقامهَا و يذودً عنها في كل مقامٍ و مقَال ..


و إنّه الآن ليُراجِع نفسه مرّاتٍ و مرّات .. هل كان في مَيْلِه هذا عيب ؟ هل هو حرام ؟ هل حاد عن جادّة الطريق ؟

كلا ! إنّ الأهداف الأسمَى و الغاياتِ العُلا لا تتعارضُ أبداً و ما أحل الله ..  و هل يزعم أحدٌ لنفسه غاية التقوى و كمال الإخلاص أكثر من نبيِّ الله -صلى الله عليه و سلم- !؟ و قد ناله ما ناله من حظ الدنيا تعبُّدا لله عز و جل و شكراً لنِعمِه !؟

قُتِلَ الخرَّاصون .. و قد جعلوا من أنفسهم أوصِياء على قلوبِ العِباد ! فلا يقول بذلك إلا جاهل متنطع متصنِّع للتَّقوى .. و أمرُهُ عليه رَدّ .. إذْ لا رهبانية في دين الله !

كان هذا الشعور واضحاً في ذِهنِ الفتى من أوّل يوم .. يتعبّدُ الله به و يصدُقُ نفسَه و الآخرين ,, لكن جرحاً بليغاً جعَلهُ اليومَ يعدِل عن هذا كله .. لا رهبانيةً و لا استقذاراً لما أحل الله .. و لكن تخفُّفاً من حِمل ينوءُ به و لا طاقةَ لهُ بهِ بعد اليوم ..
لقد كان الجُرح كافياً .. لأن يغلقَ الفتى أبوابَه و يختِم عليها بالشمع الأحمر .. و قدَرُه أن يعيش غُربتَه مضاعفةً و لا يسعدَ بغيرِ الله رفيقاً و مُؤنِساً ..

فطوبى لِمن كان غريباً بين الناسِ خليلاً للرحمانِ في عليَائِه .. و تستمرُّ الحيَاة ..

هناك تعليق واحد:

  1. و أبرم اللهم لأخي قضاءً يُدفع به سابق قضائك .. و اجزه اللهم بشكره و صبره جنةً و رضواناً و نظرةً إلى وجهك الكريم.

    ردحذف