2012/08/25

أشــواك

قام من على حاسوبه يخفي دُموعه و يُقنِع نفسه أن أحداً لم يلاحظ .. و أختاه ترمُقانِه في حسرة ، و تتفطر قلوبهما على شقيقهما المدلل .. الذي لم يذرف دمعة قط من قبل ..
انصرف إلى غرفته و أقحم وجهه في الوسادة و أجهش بالبكاء .. اختلط بكاءُه بحشرجةٍ أليمة، و ارتفع صوته و كأنه نحيب امرأة مفجوعة في ولدها .. حاول أن يكتِم أنفاسه .. لكن بلا فائدة .

طرق النحيب مسامع والدته .. فأقبلتْ إليه تعثر في جلبابها ..
_ ماذا حصل يا بني ؟ أتبكي على ضياع هاتفك ؟ لم أعهد منك حرصاً على متاع الدنيا الزائل !!
_تمتم الولد في نفسه بهمسات غير مسموعة ؛ و هل على مثل ذلك يبكي الرجال يا أماه ؟
ظنت المسكينة أنه يبكي على ضياع هاتفه الذي نسيه عل  طاولة المقهى ، من شدة الارتباك و شرود الذهن .. فامتدّتْ إليه يدٌ آثمة ، وجدتْ  في غفلة إنسانٍ مهزوم فرصة لنيل بعض الفتات .. خلسةً في الظلام !



تحاول الوالدة إقناع ابنها أن لا شيء يستحق البكاء ، دون أن تحصل منه على خبرٍ يشفي حُرقة قلبها .. و ماذا عساه يخبرها ؟
لقد بخِل عليها بنبأ حُبِّه لإحداهن و عزمَهُ الإقبال على خِطبتها مع علمه كم كان الخبر سيُفرحها و يشرح صدرها .. و هي التي تحسبه من سنواتٍ عازفاً عن الزواج عزوفه عن رفع بصره في أيٍّ من اللاتي سبق و عرضَتهُنّ عليه !
فهل سيُخبرها الآن أن عِقده انفرط و أنها كانت الحالِقة ؛ و قد أقسم اليمين المغلظ ألا يفتح قلبه بعدها .. هل سيفجعها بهذا الخبر الأليم ؟
لقد آثر الصّمت و الكِتمان كعادته .. و إن الاستفراد بألمٍ دون القُدرة على البوح به و مشاركته مع من يحمل عنك جزءاً منه .. لهو أشد من الألم ذاته ..

سكنَ الولد و تظاهر بالنوم .. يوحي لوالدته أن بكاءَه إنما هو جزءٌ من حُلمِه .. ففهمت الوالدة قصده و انصرفت .

أطرق الولد يعضُّ على أسنانه من شدة الغيض و يتحسَّس عنقه بكلتا يديه ، يحاول فك رباطٍ يخنقه .. لكن لا حبل هنالك و لا رباط ! ثم انفجر بالبكاء .. و إن لبكائِه أنيناً مستعراً .. و كأنه طفل صغير ..
ما عاد يحتمل هذا الوضع .. و أجفانه ملتهبة تأبى أن تُغمض ..

قام من فراشه و ارتقى إلى سطح المنزل يتعثر في ظلام الدُّرج الدَّامس .. رفع بصره إلى السماء يبحث في ثناياها .. و قد اعتاد على رؤية نور حبيبته معكوساً على سطح النجوم المتلألئة .. لكن لا نور اليوم يلمع و لا ضياء !
خاب أمله فانكبَّ على وجهه و انفجر بالبكاء ..

يـــا لهذه الليلةِ التي تأبى أن تنتهي .. و هذا الدمعِ الذي يأبى أن يجف ..

انزوى الفتى إلى ركنٍ ذاتَ اليمين .. و ثنى ركبتيه إلى ذقنه كاليتيم .. و طفِق يتأمل عبارات تمر بمخيلته .. يحاول فرز الجميل منها من الأليم .. كانت هنالك عبارة واحدة .. يحاول طردها بكل وسيلة .. لكنها تأبى إلا أن تتراءى له من بعيد (لم تعد تريد زواجاً .. لا بك و لا بأي أحد) .. وما أن رمقها تمر أمام عينيه حتى انفجر بالبكاء ..

امتدَّتْ إليه يدُ الإله في رقةٍ و حنان .. و غشِيتهُ رحمةٌ من السماء فنام .. ليستيقظ على صوت المؤذن غيرَ بعيد ..
استيقظ و أطرافه متشنجة من شدة البرد .. و ثيابه مبللة بقطرِ النَّدى .. و قد أيقن أن لا فائدة من مناجاة أحدٍ من البشر .. فليتوجه إلى الله يبُثُّ إليهِ حزنهُ و همَّهُ و لله المُشتكى ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق